جلس معاوية يوماً بين أصحابه إذ أقبلت قافلتان من البرية، فقال لبعض من كان عنده: انظروا هؤلاء القوم وائتوني بأخبارهم،
فمضوا وعادوا وقالوا: يا أمير المؤمنين قافلتان إحداهما من اليمن والأخرى من قريش.
فقال: أدخِلوا عليّ قريشاً، أما أهل اليمن فينزلون في أماكنهم إلى أن نأذن لهم في الدخول.
فلما دخلت قريش سلم عليهم وقربهم وقال: أتدرون يا أهل قريش لمَ أخّرت أهل اليمن وقربتكم؟
قالوا: لا والله يا أمير المؤمنين.
قال: لأنهم لم يزالوا يتطاولون علينا بالفخار ويقولون ما ليس فيهم،
وإني أريد إذا دخلوا غداً وأخذوا أماكنهم من الجلوس أن أقوم فيهم نذيراً وألقي عليهم من المسائل ما أُقلل به إكرامهم وأرخص به مقامهم،
فإذا دخلوا وأخذوا أماكنهم من الجلوس فلا يجيبهم أحد غيري.
وكان المقدم عليهم رجل يقال له الطرماح بن الحكم الباهلي، فأقبل على أصحابه وقال:
أتدرون يا أهل اليمن لمَ أخّركم بن هند وقدم قريشاَ؟ قالوا: لا، قال:
لأنه غداً سيقوم فيكم نذيراً ويُلقي عليكم من المسائل ما يقلل به إكرامكم ويرخص به مقامكم،
فإذا دخلتم عليه وأخذتم أماكنكم من الجلوس وسألكم عن شيء فلا يجيبه أحد غيري.
فلما كان من الغد دخلوا عليه وأخذوا أماكنهم، فنهض معاوية قائماً على قدميه وقال:
أيها الناس، من هو أوّل من تكلم بالعربية وعلى من أنزلت العربية؟
فقام الطرماح وقال: منا نحن يا معاوية، ولم يقل يا أمير المؤمنين.
فقال: لماذا؟
قال: لما نزلت العرب ببابل وكانت العبرانية لسان الناس كافة، أرسل الله تعالى العربية على لسان يعرب بن قحطان الباهلي وهو جدنا،
فقرأ العربية وتداولتها قومه من بعده إلى يومنا هذا، فنحن يا معاوية عرب بالجنس وأنتم عرب التعليم.
فسكت معاوية زماناً، ثم رفع رأسه وقال: أيها الناس من أقوى العرب إيماناً ومن شُهِد له بذلك؟
قال الطرماح: نحن يا معاوية.
قال: ولم؟
قال: لأن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم فكذبتموه وسفهتموه وجعلتموه مجنوناً، فآويناه ونصرناه،
فأنزل الله تعالى: "والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً"،
وكان النبي صلى الله عليه وسلم محسناً إلينا متجاوزاً عن سيئاتنا،
فَلِمَ لَمْ تفعل أنت كذلك؟ كأنك خالفت رسول الله صلى الله عليه وسلم!
فسكت زماناً ثم رفع رأسه وقال: أيها الناس من أفصح العرب لساناً ومن شهد له بذلك؟
قال الطرماح: نحن يا معاوية.
قال: ولمَ ذلك؟
قال: لأن أمرؤ القيس بن حجر الكندي منا قال في بعض قصائده:
يطعمون الناس غباً .... في السنين الممحلات
في جفان كالجواب ...... وقدور راسيــــــــات
وقد تكلم بألفاظ جاء مثلها في القرآن، وشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.
فسكت معاوية زمناً، فقال: أيها الناس من أقوى العرب شجاعة وذكراً ومن شهد له بذلك؟
قال الطرماح: نحن يا معاوية.
قال: ولمَ ذلك؟
قال: لأن منا عمرو بن معد يكرب الزبيدي كان فارساً في الجاهلية والإسلام،
وشهد له النبي عليه أفضل الصلاة والسلام بذلك.
فقال معاوية: وأين أنت وقد أُتيَ به مصفداً بالحديد.
فقال له الطرماح: ومن أتى به مصفداً؟
قال معاوية: أتى به علي.
قال الطرماح: والله لو عرفتَ مقداره لسلمت إليه الخلافة ولا طمعتَ فيها أبداً.
فقال معاوية: أتهجوني يا عجوز اليمن؟
قال الطرماح: نعم يا عجوز مضر،
لأن عجوز اليمن بلقيس، آمنت بالله وتزوجت نبيه سليمان بن داوود عليهما السلام،
وعجوز مضر جدتك التي قال الله في حقها: "وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد".
فسكت معاوية زماناً، ثم رفع رأسه وقال: جزاك الله خيراً من صاحب، فما أوفر عقلك!
فأعطاه وأحسن إليه.
مناظرة بين معاوية وأهل اليمن،
العرض العادي
