تساقطت الدموع من عينيها وهي تودع أمها،عينا شقيقها ذو الخمسة أعوام تذرفان الدمع أيضا،
قبلته ووعدته بهدية يحبها،يقسم شقيقها الأكبر أن ذلك اليوم من اسوأ أيام حياته.
وجومٌ يسود الموقف،صمتٌ غريب يطوق المكان،كل أفراد أسرتها مطرقين بعد أن ودعوها،
رمقتهم بنظرة وداعٍ أخيرة ولوحت بيدها مودعةً،نبضات قلبها تسابق خطواتها..المجهول يخيفها،
لا تدري عما يخبئه لها القدر ولكن هناك في أقصى الضلوع قلبٌ يوحي لها بعدم الاطمئنان،
استعاذت من وساوس الشيطان وحاولت التشاغل عن تلك الفكرة،جلست في مقعدها صامتةً
تنظر من نافذة السيارة التي أخذت تطوي الطريق من مدينتها الصغيرة إلى تلك المدينة التي لا زالت
موحشة بالنسبة إليها رغم قدومها إليها مراراً من قبل، ولكن أن تأتي مصحوباً بمن تحب ليس كمجيئك فرداً وحيداً،
آلاف الأفكار تصارعت في رأسها في تلك اللحظات،تساءلت عن سبب ذلك الخوف الذي يملأ فؤادها،تحسست قلبها ،
وجدته ينبض كما لم ينبض من قبل ابداً،ما الداعي لكل هذا الخوف؟قالت لنفسها ثم استطردت:أليس هذا هو الحلم الذي شغلني
طوال سنينٍ مضت؟ها هو قد تحقق..ولكن..هيهات هيهات بين الحلم والواقع.
في أول ليلةٍ لم تذق عيناها طعم النوم أبداً ،كيف لا وهذه أول ليلةٍ تقضيها بعيدةً عن أسرتها الحبيبة؟
وهنا فقط..في تلك اللحظات القاسية..أدركت أنه بقدر حلاوة الحلم ستكون مرارة الواقع،مرّ الليل ثقيلاً كئيباً موحشاً،
كانت تظن أنّ الزّمن توقّف في تلك الليلة،ولكن أخيراً هاهو أذان الفجر قد ارتفع معلناً بداية يومٍ جديد،
وواقعٍ جديدٍ بالنسبة إليها،صلّت الفجر وأخذت تستعدّ للذّهاب إلى الجامعة،نسّقت شعرها الطّويل وارتدت ملابسها وهي تكاد تسقط من الاعياء،احتست فنجاناً من القهوة علّها تشعر بالنّشاط،
ثمّ توجهت إلى جامعتها دون أن تضع أي مسحوقٍ على وجهها،بدت كطفلةٍ ظلّت الطّريق
وأتت إلى هذا المكان الرّهيب دون قصد،صوتها الطفولي يجذب كل من حولها ولا يملكون
سوى الابتسام لها بمودةٍ ومحبة،وتلك البراءة التي طبعت حضورها بطابعٍ خاص كانت لافتةً في شخصيتها العفوية.
مرّ اليوم الأول ثقيلاً بطيئاً وكأنّ عقارب السّاعة قد أصابها الشّلل،وبنفس الوتيرة مرّت بقيّة أيّام الأسبوع،
ولحسن الحظ لم تكن لديها محاضراتٍ في يوم الأربعاء،انتهى الأسبوع الأول لها بنهاية دوام الثلاثاء،حزمت حقائبها
وعادت إلى أسرتها وكأنها غابت عنهم دهراً،عادت منهكةً ذاويةً كزهرةٍ ذابلة،اصفرّ لونها وغابت ضحكتها،
ارتمت في حضن أمها ودفنت وجهها بين كفيها وأجهشت في بكاءٍ مرير،اجتمع أفراد أسرتها مهدئين وأخبروها
بأنه يمكنها الانسحاب من الجامعة ما دامت لم ترقها،(اللي هذا أوله ينعاف تاليه)قالها أخوها متعاطفاً معها ومشجّعاً لقرار الانسحاب،أ
يّدته الأم التي غلبت عليها عاطفة الأمومة ومنعتها من التفكير سوى في شيئٍ واحد هو أن تكون ابنتها بجانبها دائماً،
اعترضت جدّتها بقوّة(عودتوها ع الدلع وهذي النتيجة..اللي بعمرها عندهم عيال وانتم ما تبغوها تبعد عنكم حتى عشان مصلحتها)
سكت الجميع ولم يعلّق أحد..حتى هي لم تعلّق وكأن فكرة الانسحاب قد راقتها،
وغرقت في صمتٍ غريب لا يعرفون له تفسيراً،قضت معهم ثلاثة أيّام وعندما جاء موعد العودة
حزمت حقائبها واستعدت للسفر،سألوها إلى أين؟وقفت بتحدٍّ وحزمٍ وقالت:سأكمل الحلم حتىّ ولو كان مرّاً..