ما عاتب المرء الكريم كنفسه =والمرء يصلحه الجليس الصالح
1ما عاتب المرء الكريم iiكنفسه والمرء يصلحه الجليس الصالح
بينما أورد له صاحب الأغاني قوله :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل =وكل نعيم لا محالة زائل
1ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل
ويذكر الرواة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعجب بهذا البيت وهو من قصيدة قالها بعد إسلامه ومطلعها :
ألا يسألان المرء ماذا يحاول =أنحب فيقضي أم ضلال وباطل
1ألا يسألان المرء ماذا iiيحاول أنحب فيقضي أم ضلال وباطل
بل روى صاحب الأغاني أن لبيداً لم يترك الشعر طوال حياته، فأورد له أبياتاً قالها في السبعين ثم التسعين ثم المائة وبعد المائة، ومعنى هذا أن قريحته لم تخمد وظلت متقدة حتى وفاته. حين أوصى ابن أخيه بإحسان دفنه شعراً، وكذلك ما قاله في وصف حال بناته بعد موته :
تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما =وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر
1تمنى ابنتاي أن يعيش iiأبوهما وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر
وكما يقول الدكتور شوقي ضيف فإن الشعر في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجري على كل لسان ، ويكفي أن نرجع لسيرة ابن هشام ، فسنرى سيولاً تتدافع من كل جانب، وحقاً فيها شعر موضوع كثير ، ولكن حينما يصفى، وحين نقابل عليه ما ارتضاه ابن سلام وغيره من الرواة الموثوق بهم ، نجدنا إزاء ملحمة ضخمة تعاون في صنعها عشرات من الشعراء أو الشاعرات)9
ومع كثرة هذا الشعر وتفاوت درجات قوته ، فإنه كان متعدد البيئات في المجتمع الإسلامي نفسه، حيث نجد شعراء المهاجرين وشعراء الأنصار وشعراء مكة والطائف والقرى اليهودية المحيطة بالمدينة، وشعراء البادية في كل بيئة من هذه البيئات ، عدد من الشعراء يتفاوتون في درجات شعرهم غير أنهم جميعاً يمثلون من الناحية الفكرية العقائدية معسكرين مختلفين، معسكر المسلمين ومعسكر المشركين . فقد كان شعراء المسلمين من الأنصار والمهاجرين ينظمون شعراً يمتاز بالجودة والأصالة، ويستجيب لآداب الإسلام ومبادئه ، ويعبر عن قاموسهم اللغوي، من المعاني الجديدة التي أضفاها الإسلام على كثير من المفردات مهتدين بتوجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم في التعبير عن الوجه الإسلامي الجديد ، الذي يطمح إلى الشهادة ويفخر بالجهاد والانتصار على أعداء الله ، ويبحث عن الجزاء في الآخرة لا في الدنيا ، وكل ذلك في إطار أسلوبي جديد يتميز باليسر والسهولة والوضوح، بعيداً عن التكلف المبالغة والتقصير والفحش ، وهذا ما جعل بعض النقاد يصف هذا الشعر باللين والضعف، فهذا المضمون الجديد لا بد له من إطار جديد يتناسب معه ويعززه ، ولم يقف شعراء المسلمين عند ذلك ، بل أحدثوا تغييراً أيضاً في مضمون الفنون الشعرية ، وكان شعر الرثاء أكثر الفنون ، خاصة في رثاء حمزة ورثاء الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن الرثاء تفجعاً ونحيباً وسخطاً ، بل كان حزناً وألماً ودعوة إلى نشر الإسلام والشهادة في سبيله وابتغاء ثواب الله في الآخرة، فالرثاء قد ارتبط بأهداف سامية وغايات يسعى إليها، ولم يقتصر دور الشعر الإسلامي على المدن الرئيسية ، بل تغلغل في البادية، حيث وجد فيها عدد من الشعراء الذين ظهر أثر الإسلام واضحاً في شعرهم من أمثال لبيد بن ربيعة والنابغة الجعدي الذي يقول :
الحمد لله لا شريك له =من لم يقلها فنفسه ظلما
المولج الليل في النهار وفي =الليل نهاراً يفرج الظلما
الخافض الرافع السماء على =الأرض ولم يبن تحتها دعما
1
2
3الحمد لله لا شريك iiله من لم يقلها فنفسه iiظلما
المولج الليل في النهار iiوفي الليل نهاراً يفرج iiالظلما
الخافض الرافع السماء iiعلى الأرض ولم يبن تحتها دعما
وقد دخل أغلبهم في الإسلام وشارك في الدفاع عنه بسيفه ولسانه وقد ظهر شعرهم بغزارته في الفتوحات الإسلامية في عهد الراشدين.
أما معسكر المشركين فقد قادة شعراء مكة والطائف والقرى اليهودية، ومع أن شعراء مكة من المسلمين قد نافحوا عن دينهم ، فإن نفراً منهم قد عُرف بعدائه للإسلام وقتاله ضد المسلمين وتعصبه لموروثاته وأوثانه وعادات آبائه، من أمثال عبد الله بن الزبعري الذي كان شديد الهجاء للمسلمين كثير التحريض للمشركين عليهم، وقد أسلم بعد فتح مكة، وهو من الشعراء المبدعين في عصره ، اعتبره ابن سلام من أبرع شعراء، وقد كان لشعراء مكة شعر غزير في رثاء قتلى المشركين ببدر، حتى من النساء الشواعر اللائي يحرصن على قتال المسلمين، ولم يكن شعراء الطائف أقل عداء للمسلمين من شعراء مكة، من أمثال أمية بن أبي الصلت، الذي رثا قتلى بدر من المشركين، وحرض ثقيفاً على قتال الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأبي محجن الثقفي الذي أسلم ومات مجاهداً أيام سيدنا عثمان .
أما أكثر الناس عداء للرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين؛ فقد كان شعراء اليهود أمثال كعب بن الأشرف، الذي كان أشدهم عداء وأكثرهم هجاء للمسلمين والذي شبب بنساء الرسول صلى الله عليه وسلم ، وحرض المشركين على قتال المسلمين .
فالشعر الذي قيل من المسلمين أو المشركين المعارضين لهم، هو الذي يمثل صورة الشعر في صدر الإسلام، وقد ضاع أغلب هذا الشعر المعارض لعدم اهتمام الرواة به لأنه مخالف للتوجه الإسلامي الجديد، ولأن المسلمين لن يشغلوا أنفسهم بشعر قيل في هجائهم ومعاداة نبيهم ورفض دينهم . بل إن شعر كثير من المسلمين الذين وردت أشعارهم في كتب السيرة وطبقات الصحابة، لم تجد اهتماماً وعرضاً في كتب الأدب العربي القديمة المعتمدة ، وهذا الشعر بضخامته يشكل جزءاً كبيراً من الشعر الإسلامي في صدر الإسلام، ينفي مقولة ضعف الشعر وقلته في هذا الفترة الخصبة من حياة المسلمين ودعوتهم .
وثمة نقطة نبه إليها الدكتور عبد القادر القط في دراسته للشعر الإسلامي، ويرى أن كثيراً من الدارسين يغفلونها تماماً وهي : (أن الضعف الذي لاحظناه على الشعر الإسلامي(إذا سلمنا برأيه) كان قد بدأ في الحقيقة قبيل الإسلام لا بعده، كان قد انقضى عهد الفحولة ولم يبق منهم إلا الأعشى الذي مات - كما تقول الرواية وهو طريقة إلى النبي ليمدحه ويعلن إسلامه ، ولبيد الذي كان قد بلغ الستين وأوشك أن يكف عن قول الشعر، ولم يبق عند ظهور الإسلام إلا شعراء مقلون بعضهم مجيد في قصائد مفرده، ولكنهم لا يبلغون شأو هؤلاء الفحول ).[1]
فهو يرى أن الشعراء قبيل الإسلام قد أسهموا بنصيب وافر في إيجاد الشعور القومي وتأصيل القيم الأخلاقية والاجتماعية لنشأة أمة متماسكة، والتمكين للغة العربية لتسود على لهجات العرب كلها "وكأنما فرغ هؤلاء الفحول من تلك الرسالة الحضارية قبيل الإسلام، فانقضى جيلهم وظل المجتمع العربي بضع سنوات ينتظر رسالة من نوع جديد تحقق للعرب تلك الوحدة التي كانت كثيراً من مظاهر الحياة في الجزيرة العربية تنبئ بها، ويستخدم تلك اللغة التي مكن لها هؤلاء الشعراء في الأرض لكي تحمل قيمها الروحية والحضارية الجديدة . وكان لا بد أن تمضى سنين أخرى في ظل الإسلام حتى ينشأ جيل جديد تربي في تلك البيئة الحضارية الجديدة، بعد أن تبلورت سماتها واستقرت قيمها وتجاوزت مرحلة الانتقال إلى مرحلة الأصالة" [2] إذن هناك مرحلة انتقل فيها الشعر من الجاهلية إلى الإسلام، وإذا نظرنا إلى عظم التحول الذي يحدث في الحياة العربية نجد أن المرحلة الانتقالية لم تستغرق وقتاً طويلاً؛ إذا ما قيس بعظم التحول، حيث أن الشعراء المخضرمين سرعان ما استوعبوا الحياة الجديدة، وتعرفوا أسلوب القرآن المعجز وتأثروا بالمعاني والأفكار التي جاء بها الإسلام، غير أن درجات التكيف قد تفاوتت بالنسبة للشعراء، فمنهم من دخل الإسلام فيهم وامتزج بنفوسهم ومشاعرهم، فتطابقت أفكارهم مع النظرة الإسلامية وتكيفوا مع الحياة الجديدة. كما هو حسان بن ثابت، ومنهم من دخلوا في الإسلام، غير أن الإسلام لم يدخل نفوسهم ولم يتعمق مشاعرهم، فظلوا على جاهليتهم يتأرجحون يبن الأهواء المتعلقة في نفوسهم والحياة الجديدة التي لم يتكيفوا معها بالدرجة المطلوبة، فعبروا عن هذه الأهواء، كما نرى في شعر الحطيئة؛ الذي مدح وهجا وتكسب بشعره مما لم يجعل لشعره في الإسلام اختلافاً عن شعره في الجاهلية، غير أبيات قليلة استعفى بها سيدنا عمر بن الخطاب لإخراجه من السجن، وبعض أبيات في المدح والحكمة، فهو لم يتأثر بروح الإسلام وأسلوب القرآن، فظل شعره في الإسلام امتداداً لشعره في الجاهلية ، فالشعراء اختلفوا في استجابتهم، فبعضهم كان بعيداً عن الحياة الجديدة فلم يعبر عن تجارب جديدة، وكان امتداداً للشعر الجاهلي برصيده ونماذجه، بينما شارك بعض الشعراء في الدعوة إلى الإسلام ونصرته، وعبروا عن الحياة الإسلامية الجديدة بفكرها وعلاقاتها وأخلاقها، وكان شعرهم خليطاً من الجاهلية والإسلام، لصعوبة التخلص من الآثار الجاهلية في مرحلة وجيزة "والصورة العامة للشعر في الإسلام تقوم على حقيقة حضارية معروفة هي أن هناك بالضرورة تداخلاً في فترات التاريخ الحاسمة، وأنه لا يمكن أن يكون هناك حد فاصل بين فترة والتي تليها، وبخاصة حين يتصل الأمر بمقومات نفسية بعيدة الغور في نفوس أصحابها، أو بقيم فنية أصبحت تقاليد موروثة لا يمكن الخلاص منها فجأة؛ أو الاهتداء إلى غيرها من قيم جديدة على اختلاف في المظهر والدرجة " [3]
إن الحديث عن نظرة الإسلام للشعر؛ جعلت كثيراً من الباحثين يغفلون عن جانب هام في هذا المجال، حيث ركزوا على موقف الإسلام من الهجاء والفخر الجاهلي والتعرض للأعراض، ولم يشيروا إلى نظرة الإسلام للجانب العاطفي في حياة الإنسان، وهو جانب مهم لم يهمله الإسلام أو يحتقره، بل عمل على استثارته وجعله قوة دافعة نحو الحياة الخيرة والعمل الصالح ، فالإسلام ينظر إلى الإنسان باعتباره طاقة من الغرائز والميول والأهواء والحاجات، فركز على السمو بها وتهذيبهاوتوجيههاالوجهة التي تحقق الغاية من وجودها في النفس الإنسانية، فالشاعر الجاهلي عندما يتناول عاطفة الحب؛ إنما يتناولها من حيث المظهر الخارجي، بينما يتناولها الشاعر المسلم بتعمق، وتأمل فالإسلام يبارك هذه العاطفة على المستوى الفردي، باعتبارها الإطار الاجتماعي للحياة الفردية، التي لا تتجاوز مقدسات الجماعة وحقوقها ، كما أن الإسلام لم يقصر هذه العاطفة على المرأة وحدها، بل جعلها تعم مجالات أخرى في المجتمع، إذ أن تركيز هذه العاطفة نحو شيء واحد: المرأة والمال أو الحرب ، إنما يدمر المجتمع ويسقطه ، إن النشاط النفسي للإنسان لا يمكن توجيهه نحو عاطفة واحدة، فالنفس الإنسانية تعج بالعواطف المختلفة كالحب لله والحب للناس والإخاء بين المسلمين؛ الذين يمثلون الجسد الواحد، وحب الجهاد وغير ذلك، فالإسلام يوجه عاطفة الحب في صورة متكاملة نحو التنويع والتشعب لتشمل جوانب أخرى في الحياة بأقدار محدودة تحدث التوازن في المجتمع الواحد.